رجال صدقوا .. بقلم علي الشافعي
يومٌ مجيد من ايام الله , سطره رجل من الذين صدقوا ما عاهدوا الله
عليه , في صفحة مشرقة من تاريخ لعبت به ايد خبيثة , فغيبته عن اهله . يومٌ
بشر به رسول الله عليه افضل الصلاة والتسليم . انه صبيحة يوم الاربعاء 21
جمادى الأولى 875هـ/ 30 من مايو (ايار)1453م ، يوم وقف السلطان محمد
الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهم يرددون : ما شاء الله !
قائلا : ايها الجند لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية .
القسطنطينية
نعم ــ يا دام مجد اجدادكم ــ القسطنطينية او بيزنطة , التي استعصت جيوش
الفتح الاسلامي طوال تسعة قرون . القسطنطينية التي اطلق عليها فاتحها اسم
(اسلام بول ) أي عاصمة الاسلام , حتى 1930 في عهد اتاتورك الذي بدّله الى
اسطمبول من اسم يوناني قديم "إستانپولين" ثم نقل العاصمة الى انقرة .
من هو محمد الفاتح ؟ وكيف فتحت اكثر مدينة تحصينا في التاريخ ؟
وقصة السفن التي سارت على اليابسة ؟ سأحدثكم بعد ان تصلوا على خير الانام
:
تقع اسطنبول في شمال غرب إقليم مرمرة في تركيا ، و تُقسم
الان إلى قسمين يفصل بينهما مضيق البوسفور ما بين 550م و3000م
والقسطنطينية هي الان القسم الاوروبي وكانت عاصمة الدولة البيزنطية ،
بينما يقع القسم الشرقي في آسيا
حاول المسلمون فتح
القسطنطينية اكثر من مرة ، حاولوا فتحها للمرة الأولى من عام 674 حتى عام
678م , في زمن خلافة "معاوية بن أبي سفيان" الأموي، ولكن الحصار فشل في
تحقيق النتيجة المرجوة منه . وعاودوا حصارها سنة 717م في زمن الخليفة
"سليمان بن عبد الملك" ، وقد دام الحصار 12 شهرًا ، لكن الجيش لم يتمكن من
دخولها هذه المرة أيضًا ، بسبب مناعة أسوارها .
تبدا حكايتنا
ــ دام فضلكم ــ بفتى يافع , يتدفق حيوية ونشاطا اختار له والده امهر
المعلمين والمربين , لتهيئته ليكون السلطان السابع من سلاطين بني عثمان .
اما الفتى ف (محمد الثاني ) الذي عرف فيما بعد بمحمد الفاتح , وهو ابن
السلطان مراد الاول , الذي امضى حياته في مقارعة الفرنجة , وصد هجماتهم
على ديار الاسلام , وخاصة في الشمال الافريقي , وذلك بعد سقوط الاندلس .
فتربّى الفتى على حب الإسلام ، والعمل بالقرآن والسنة ، واتصف بالتُّقى
والورع ، وقد نجح الشيخ "آق شمس الدين "- وكان واحدًا ممن قام على تربيتة
وتعليمه – في بث روح الجهاد , والتطلع إلى معالي الأمور في نفس الأمير
الصغير ، واخذ يلمح له بأنه قد يكون المقصود ببشارة النبي – صلى الله عليه
وسلم- : لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ
أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ , وكان لهذا الإيحاء دور
كبير في حياة "محمد الفاتح" فنشأ عالي الهمة طموحا ، واسع الثقافة ،
محبًّا للجهاد ، على دراية بفنون الحرب والقتال .
تولى السلطان محمد الفاتح الخلافة العثمانية في (16محرم 855هـ - 18 فبراير
عام 1451م)، وعمره (22 سنة) ، ومنذ اليوم الاول لتوليه الحكم وضع نصب عينه
ذلك الهدف السامي (فتح القسطنطينية ) , ليفوز بالبشارة . فاخذ يعد العدة
لذلك , وهو يعلم المخطر التي سيواجهها جيشه , لذلك بذل جهودًا خارقة في
مجال التخطيط لهذا الفتح ، فعمل اولا على دعم الجيش بالقوى البشرية ، حتى
وصل تعداده قرابة ربع مليون مجاهد . وهو عدد كبير إذا قُورن بجيوش الدول في
تلك الفترة ، كما عنى بتدريبه على فنون القتال المختلفة ، وتجهيزه بمختلف
أنواع الأسلحة اللازمة لهذه العملية ، ومن أهمها المدافع ، التي أخذت
اهتمامًا خاصًّا منه ؛ حيث أحضر مهندسًا مجريًّا يُدعى (أوربان ) وكان
بارعًا في صناعة المدافع ، فأحسن استقباله ، ووفَّر له جميع الإمكانيات ,
فتمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة ، على رأسها
المدفع السلطاني المشهور ، الذي لم يُرَ مثله من قبل ، كان يزن (700) طن ،
وتزن القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام ، وتُسمع طلقاته من مسافات بعيدة ،
ويجره مائة ثور يساعدها مائة من الرجال الأشداء . كما اولى عناية خاصة
بالأسطول العثماني ؛ حيث عمل على تقويته ، وتزويده بالسفن المختلفة ليكون
مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية ، بلغت أكثر من أربعمائة
سفينة . كما اعتنى بإعداد الجيش إعدادًا معنويًّا قويًّا ، وغرس روح
الجهاد ، وتذكير الجند بثناء الرسول على الجيش الذي يفتح القسطنطينية ،
وعسى أن يكونوا هم هذا الجيش المقصود بذلك .
عندما اكتملت
الاستعدادات زحف السلطان محمد الفاتح على القسطنطينية فوصلها في (السادس من
إبريل سنة 1453م) ، فحاصرها من البر بمائتين وخمسين ألف مقاتل، ومن البحر
بأربعمائة وعشرين شراعًا، فوقع الرعب في قلوب أهل المدينة ؛ وبقي الحصار
(53 يومًا) ، قام خلالها بتمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية ؛ لكي تكون
صالحة لجرِّ المدافع العملاقة ؛ وعندما وصلت الأجناد يقودها الفاتح بنفسه
إلى مشارف القسطنطينية ، جمع الجند وخطب فيهم خطبًة قوية حثهم فيها على
الجهاد ، وطلب النصر أو الشهادة ، وذكّرهم فيها بالتضحية ، والصدق عند
اللقاء ، وقرأ عليهم آيات الحهاد ، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي
تبشِّر بفتح القسطنطينية ، وفضل الجيش الفاتح لها وأميره ، وما في فتحها من
عزٍّ للإسلام والمسلمين ، ثم نشر العلماء في بينهم , مما رفع معنوياتهم ،
حتى صاروا ينتظرون القتال بفارغ الصبر .
قام السلطان بتوزيع
جيشه البريّ أمام الأسوار الخارجية للمدينة ، مشكِّلاً ثلاثة أقسام رئيسية
تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات ، كما أقام الفاتح جيوشًا
احتياطية خلف الجيوش الرئيسية ، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن
أهمها المدفع السلطاني العملاق ، الذي أقيم أمام باب طوب قابي . كما وضع
فرقًا للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة ، وقد
انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة ، إلا أنها في البداية
عجزت عن الوصول إلى القرن الذهبي ؛ حيث كانت سلسلة عملاقة تحطم كل سفينة
تحاول الاقتراب , لكن الله ألهم الفاتح إلى طريقة يستطيع بها إدخال سفنه
إلى القرن الذهبي دون الدخول في قتال مع البحرية البيزنطية , متجاوزًا تلك
السلسلة ، تتمثل في جرِّ السفن العثمانية على اليابسة حتى تتجاوز السلسلة
التي تغلق المضيق والدفاعات الأخرى، ثم إنزالها مرة أخرى إلى البحر. وقد
درس الفاتح وخبراؤه العسكريون هذا الأمر ، وجهزوا ما يحتاجونه من أدوات
لتنفيذه ، والطريق البرية التي ستسلكها السفن .
وبعد إكمال
المعدات اللازمة أمر الفاتح في مساء يوم 21 إبريل بإشغال البيزنطيين في
القرن الذهبي بمحاولات العبور من خلال السلسلة ، فتجمعت القوات البيزنطية
منشغلة بذلك عما يجري في الجهة الأخرى ؛ حيث تابع السلطان مدَّ الأخشاب على
الطريق الذي كان قد سوِّي ، ثم دهنت تلك الأخشاب بالزيوت ، وجرت السفن من
البسفور إلى البرّ؛ حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة
أميال، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي ، وتمكن العثمانيون
في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على
حين غفلة من العدو ، بطريقٍ لم يُسبَق الفاتح احد اليها في التاريخ كله .
حددت ساعة الصفر بالواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء 20 جمادى
الأولى 857 هـ/ 29 مايو 1453م بدأ الهجوم العام على المدينة , بعد أن أعطيت
إشارة البدء ، فعلت أصوات الجند المسلمين بالتكبير وهم منطلقون نحو
الأسوار، بعد التمهيد بقصف الاسوار بالمدافع التي ادت الى انهيار التحصينات
, واحداث فجوات في السور , ففزع أهل المدينة وأخذوا يدقون نواقيس الكنائس ،
وهربوا إليها ، وكان الهجوم العثماني متزامنًا بريًّا وبحريًّا في وقت
واحد , وحسب خطة دقيقة رسمت سابقًا ، طلب كثير من المجاهدين الشهادة وهم
يقتحمون الاسوار بكل شجاعة وإقدام فنالها الكثير منهم .
ومع ظهور
نور الصباح في يوم الاربعاء 30 مايو 1453م تمكن المهاجمون من ناحية باب
أدرنة من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج ، والقضاء على
المدافعين فيها ، ورفع الأعلام العثمانية عليها ، وتدفق الجنود العثمانيون
نحو المدينة من تلك المنطقة . راي الإمبراطور البيزنطي الأعلام العثمانية
ترفرف على الأبراج فنزل يشاركه يرافقه قائده المشهور جستنيان يقاتلان حتى
قتلا , ففر المدافعون . وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة .
وبعد أن أتمت القوت العثمانية فتح المدينة دخل السلطان "محمد"- الذي
أطلق عليه من هذه اللحظة "محمد الفاتح" – على ظهر جواده في موكب عظيم
وخلفه وزراؤه وقادة جيشه وسط هتافات الجنود التي تملأ المكان : "ما شاء
الله ، يحيا سلطاننا . ولما توسّط المدينة نزل عن فرسه ، وصلى ركعتين
شكراً لله ، ثم توجه إلى أهالي المدينة قائلا : أنا السلطان "محمد" أقول
لكم ولجميع الموجودين , وابلغوا عني الغائبين : إنكم في أمان على حياتكم
وحرياتكم ومعتقداتكم . ثم قرر اتخاذ "القسطنطينية" عاصمة له ، وأطلق
عليها اسم "إسلام بول" آي دار الإسلام .
بعد هذا اتجه إلى
استكمال فتوحاته في بلاد "البلقان" ، فتمكن من فتح بلاد "الصرب" و"المورة"
و"رومانيا" و"ألبانيا" وبلاد "البوسنة والهرسك" ، ثم تطلعت أنظاره إلى
"روما" وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب "القسطنطينية" . لكن الاجل هاجمه
فجأة وهو يستعد لتحقيق هذا الحلم في (3 من مايو 1481م) ، وابتهجت أوروبا
كلها بعد سماعها نبأ الوفاة ، وأمر بابا روم أن تقام صلاة الشكر في الكنائس
ابتهاجًا بهذا النبأ .
وبعد ــ يا سادة ــ رحم الله
القائد الفذ محمد الفاتح , بطل يوم من ايام الله على ارضه , وصاحب بشارة
رسول الله عليه افضل الصلاة والتسليم , واول من سير السفن على اليابسة . ما
رايكم ــ يا دام سعدكم ــ كيف تتوقعون موقفه لو راي ما يجري اليوم على ارض
الاسلام , لو راي القدس وقد احتلت , و حلب دمرت , و الموصل استبيحت , و
بغداد سحقت , وان بقية الاعراب يتنظرون دورهم . طبتم وطابت اوقاتكم


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق